كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



زَادَ مُسْلِمٌ فِي أَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ وَمَا رَآهُمْ ثُمَّ اتَّفَقَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ عِنْدِ قَوْلِهِ: انْطَلَقَ، وَلَيْسَتْ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبُخَارِيِّ وَلَيْسَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِهَا إنْكَارَ قِرَاءَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجِنِّ أَوْ رُؤْيَتِهِ لَهُمْ مُطْلَقًا بَلْ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ الَّتِي حَكَاهَا فِي آخِرِ كَلَامِهِ، وَلَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَعَارَضَهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ، وَيُقَدَّمُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ.
وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْيٌ وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ لاسيما وَقِصَّةُ الْجِنِّ كَانَتْ بِمَكَّةَ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إذْ ذَاكَ طِفْلًا أَوْ لَمْ يُولَدْ بِالْكُلِّيَّةِ فَهُوَ إنَّمَا يَرْوِيهَا عَنْ غَيْرِهِ وَابْنِ مَسْعُودٍ يَرْوِيهَا مُبَاشَرَةً عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ غَيْرَ مُعَارِضٍ لِكَلَامِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَنْ يَكُونَا مَرَّتَيْنِ.
إحْدَاهُمَا الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَهِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا الْقُرْآنُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ وَفِي سُورَةِ الْجِنِّ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَدَهُمْ وَلَا شَعَرَ بِهِمْ وَلَا رَآهُمْ وَلَا قَرَأَ عَلَيْهِمْ قَصْدًا بَلْ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ وَآمَنُوا بِهِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ.
وَثُبُوتُهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ قَطْعِيٌّ.
وَأَهْلُ السِّيَرِ يَقُولُونَ: إنَّ ذَلِكَ «لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الطَّائِفِ وَمَعَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَذَلِكَ سَنَةَ عَشْرٍ مِنْ الْبَعْثَةِ فَأَقَامَ بِالطَّائِفِ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ فَلَمَّا نَزَلَ نَخْلَةً قَامَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَصُرِفَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ وَهُوَ يَقْرَأُ» فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فَلَعَلَّ اسْتِمَاعَهُمْ فِي الصَّلَاةِ حَصَلَ مَرَّتَيْنِ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ لَا غَرَضَ فِيهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ قَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ وَهُوَ اسْتِمَاعُهُمْ لِقِرَاءَتِهِ وَإِيمَانُهُمْ بِهِ.
وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ رُجُوعُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ وَقَوْلُهُمْ لَهُمْ، وَهُوَ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ فِي تَعَلُّقِ الشَّرِيعَةِ بِهِمْ فَلِذَلِكَ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَدِلَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَعَلُّقُ السَّائِلِ بِهِ فِي ضِدِّ ذَلِكَ سَنُجِيبُ عَنْهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ فِي قِصَّةِ الْجِنِّ إلَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَكَفَى لِإِسْمَاعِهِمْ الْقُرْآنَ كَافٍ فِي وُصُولِ الشَّرِيعَةِ إلَيْهِمْ، وَقَدْ قَامَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى عُمُومِهَا مِنْ غَيْرِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاصِدٌ التَّبْلِيغَ لِكُلِّ مَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِ فَمُجَرَّدُ وُصُولِ ذَلِكَ الْبَلَاغِ إلَيْهِ كَانَ شَعَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ لَمْ يَشْعُرْ وَقَدْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ فَعُلِمَ حُصُولُ الْبَلَاغِ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِئَلَّا يَقُولَ قَائِلٌ: لَوْ كَانَ رَسُولًا إلَيْهِمْ لَقَصَدَ إبْلَاغَهُمْ.
فَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ وَأَنَّ الْبَلَاغَ قَدْ حَصَلَ بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَهُوَ كَافٍ كَمَا يَحْصُلُ لِمَنْ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ مِنْ الْإِنْسِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ دَاوُد عَنْ عَامِرٍ قَالَ: «سَأَلْت عَلْقَمَةَ هَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَفَقَدْنَاهُ فَالْتَمَسْنَاهُ بِالْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ فَقُلْنَا: اُسْتُطِيرَ أَوْ اُغْتِيلَ فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إذَا هُوَ جَاءَ مِنْ قِبَلِ حِرَاءَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَلَبْنَاك فَفَقَدْنَاك فَبِتْنَا بِشَرِّ لَيْلَةٍ بَاتَ بِهَا قَوْمٌ، فَقَالَ أَتَانِي دَاعِي الْجِنِّ فَذَهَبْتُ مَعَهُ فَقَرَأْتُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ قَالَ: فَانْطَلَقَ بِنَا فَأَرَانَا آثَارَهُمْ وَآثَارَ نِيرَانِهِمْ وَسَأَلُوهُ الزَّادَ فَقَالَ لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إخْوَانِكُمْ».
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَ مُسْلِمٍ قَالَ الشَّعْبِيُّ وَكَانَ مِنْ جِنِّ الْجَزِيرَةِ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ الشَّعْبِيِّ مُفَصَّلًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عِنْدَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمْ أَكُنْ لَيْلَةَ الْجِنِّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَدِدْت أَنَّى كُنْت مَعَهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ وَدَّ لَوْ كَانَ مَعَهُ عِنْدَ ذَهَابِهِ إلَيْهِمْ وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُطْلَقًا تِلْكَ اللَّيْلَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَالصَّحَابَةُ مَعَهُ.
وَجَمِيعُ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ دَاعِيَهُمْ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَهَبَ إلَيْهِمْ قَاصِدًا وَاجْتَمَعَ بِهِمْ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ، وَهِيَ وَاقِعَةٌ أُخْرَى بِلَا شَكٍّ غَيْرُ الْوَاقِعَةِ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ لَيْلَةُ الْجِنِّ مَا فِي إدَاوَتِك قَالَ نَبِيذٌ قَالَ تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ».
وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ وَبَيَّنُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَهُوَ كَمَا قَالُوهُ فَلَا يُعَارِضُ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ «عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَذِنَتْهُ» يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ شَجَرَةٌ، وَهَذَا كَأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى الْقِصَّةِ الَّتِي رَوَاهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يُخْرِجْ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قِصَّةِ الْجِنِّ إلَّا هَذِهِ الْقِطْعَةَ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ وَحْدَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَأَنَّهُ أَتَانِي وَفْدُ جِنِّ نَصِيبِينَ وَنِعْمَ الْجِنُّ فَسَأَلُونِي الزَّادَ فَدَعَوْت اللَّهَ لَهُمْ أَنْ لَا يَمُرُّوا بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثَةٍ إلَّا وَجَدُوا عَلَيْهَا طُعْمًا».
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَحْدَهُ لَا يَدُلُّ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قِرَاءَتُهُ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ لِلِاتِّعَاظِ بِهِ وَسُؤَالُهُ لَهُمْ الزَّادَ، وَجَوَابُهُمْ قَدْ بَيَّنَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِالدُّعَاءِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُمْ بِالْأَصْلِ أَوْ بِشَرِيعَةٍ أُخْرَى أَوْ لَا يَكُونُوا مُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ الْفَرْعِ الْخَاصِّ فَدَعَا لَهُمْ بِمَا يَحْصُلُ بِهِ الزَّادُ لَهُمْ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَعَلُّقُ حُكْمٍ لَهُمْ لَكِنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ تَكْفِي فِي تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِهِمْ فَيَحْتَمِلُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَإِطْلَاقُ الزَّادِ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَدِلَّةِ لَا يَدُلُّ بِمُفْرَدِهِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَى غَيْرِهِ بَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَحَصَلَتْ الدَّلَالَةُ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ.
وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ أَوْ قُرِئَتْ عِنْدَهُ فَقَالَ: مَا لِي أَسْمَعُ الْجِنَّ أَحْسَنَ جَوَابًا مِنْكُمْ؛ قَالُوا: وَمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَتَيْتُ عَلَى قَوْلِ الله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلَّا قَالَتْ الْجِنُّ: لَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعْمَةِ رَبِّنَا نُكَذِّبُ».
كَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ حَدِيثِ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ.
وَهَذَا الْجَوَابُ مِنْ الْجِنِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ أَوْ غَيْرِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِهِ مَعَ الصَّحَابَةِ وَالصَّحَابَةُ لَا يَرَوْنَهُمْ فَإِنَّ فِي اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُشْعِرُ بِذَلِكَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْخِطَابَ لَهُمْ وَلِلْإِنْسِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَلِّغٌ لَهُمْ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ، وَقَوْلُ الْفَرَّاءِ وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ إنَّ قَوْلَهُ: {تُكَذِّبَانِ} مِنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ بِخِطَابِ الِاثْنَيْنِ بَعِيدٌ وَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى خِلَافِهِ وَأَنَّهُ خِطَابٌ لِلثَّقَلَيْنِ.
فَهَذَا مَا حَضَرَنِي مِنْ الْأَدِلَّةِ لِذَلِكَ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَوْ تَتَبَّعْت رُبَّمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَشَرِيعَتَهُ آخِرُ الشَّرَائِعِ وَنَاسِخَةٌ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ قَبْلَهَا وَلَا شَرِيعَةَ بَاقِيَةً الْآنَ غَيْرَ شَرِيعَتِهِ وَلِذَلِكَ إذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْجِنُّ مُكَلَّفِينَ بِهَا لَكَانُوا إمَّا مُكَلَّفِينَ بِشَرِيعَةٍ غَيْرِهَا وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونُوا مُكَلَّفِينَ أَصْلًا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ طَافِحٌ بِتَكْلِيفِهِمْ.
قَالَ تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَقَالَ تعالى: {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ، وَدُخُولُهُمْ النَّارَ دَلِيلُ تَكْلِيفِهِمْ، وَهَذَا أَوْضَحُ مِنْ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَإِنَّ تَكْلِيفَهُمْ مَعْلُومٌ مِنْ الشَّرْعِ بِالضَّرُورَةِ وَتَكْلِيفُهُمْ بِغَيْرِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ يَسْتَلْزِمُ بَقَاءَ شَرِيعَةٍ مَعَهَا فَثَبَتَ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ كَالْإِنْسِ.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ: فَإِنَّ قَوْله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي اخْتِصَاصِ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِنْسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً» وَاحْتِمَالُ غَيْرِ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ.
أَقُولُ: دَعْوَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ ظَاهِرَةٌ فِي اخْتِصَاصِ رِسَالَتِهِ إلَى الْإِنْسِ مَمْنُوعَةٌ، وَعَجَبٌ مِنْ السَّائِلِ الْفَاضِلِ دَعْوَاهُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يُمْكِنُ تَمْشِيَتُهُ عَلَى مَذْهَبِ الدَّقَّاقِ الْقَائِلِ بِأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ حُجَّةٌ، وَالنَّاسُ مِنْ قَبِيلِ اللَّقَبِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَرْجَمَةَ فِي الْأُصُولِ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ لَا تَخْتَصُّ بِاللَّقَبِ بَلْ الْأَعْلَامُ كُلُّهَا وَأَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ كُلُّهَا كَذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ صِفَةً، وَالنَّاسُ اسْمُ جِنْسٍ غَيْرُ صِفَةٍ فَلَا مَفْهُومَ لَهُ فَقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا} لَيْسَ فِيهِ أَصْلًا مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ رَسُولًا إلَى غَيْرِهِمْ إلَّا عَلَى مَذْهَبِ الدَّقَّاقِ بَلْ أَقُولُ: عَلَى مَذْهَبِ الدَّقَّاقِ لَا يَتِمُّ التَّمَسُّكُ بِهَذَا الْمَفْهُومِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الدَّقَّاقَ إنَّمَا يَقُولُ بِهِ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ غَرَضٌ آخَرُ سِوَاهُ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ الِاسْمِ بِالذِّكْرِ وَحَيْثُ ظَهَرَ غَرَضٌ لَا يُقَالُ بِالْمَفْهُومِ بَلْ يُحْمَلُ التَّخْصِيصُ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ، وَالْغَرَضُ فِي الْآيَةِ التَّعْمِيمُ فِي جَمِيعِ النَّاسِ وَعَدَمِ اخْتِصَاصِ الرِّسَالَةِ بِبَعْضِهِمْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ نَفْيُ الرِّسَالَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ لَا عَلَى مَذْهَبِ الدَّقَّاقِ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ وَإِنَّمَا خَاطَبَ النَّاسَ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ تَغْلِبُ رُؤْيَتُهُمْ وَالْخِطَابُ مَعَهُمْ وَمُجَادَلَتُهُمْ.
فَمَقْصُودُ الْآيَةِ خِطَابُ النَّاسِ وَالتَّعْمِيمُ فِيهِمْ لَا النَّفْيُ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُنَا: اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، إنَّا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْمَعْدُومِ وَالْمُمْكِنِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِنَا: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، التَّعْمِيمُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُمْكِنَةِ لَا قَصْرَ الْحُكْمِ.
وقَوْله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} كَذَلِكَ وَفِيهِ زِيَادَةٌ أُخْرَى وَهِيَ تَقْدِيمُ قوله: {كَافَّةً} عَلَى قوله: {لِلنَّاسِ} فَإِنَّ ذَلِكَ أَفَادَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ حَصْرَ الرِّسَالَةِ فِي النَّاسِ حَتَّى يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَى أَحَدٍ إلَّا لِلنَّاسِ.
هَذَا لَمْ تَنْطِقْ بِهِ الْآيَةُ وَلَا أَفْهَمَتْهُ بَلْ أَشَارَتْ إلَى خِلَافِهِ بِتَقْدِيمِ {كَافَّةً} وَبِالْعُدُولِ فِي النَّاسِ عَنْ إلَى إلَى اللَّامِ فَصَارَ مَقْصُودُ الْآيَةِ إثْبَاتَ عُمُومِ الرِّسَالَةِ وَنَفْيَ خُصُوصِهَا فَإِنَّ الرِّسَالَةَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا خَاصٌّ وَمِنْهَا عَامٌّ فَصَارَ التَّقْدِيرُ: وَمَا أَرْسَلْنَاك مِنْ الرِّسَالَاتِ إلَّا رِسَالَةً عَامَّةً كَافَّةً لِجَمِيعِ النَّاسِ فَلَا يَتَوَهَّمُ أَحَدٌ أَنَّهَا خَاصَّةٌ بِبَعْضِ النَّاسِ، وَحِينَئِذٍ لَا تَعَرُّضَ فِيهَا لِلْجِنِّ أَلْبَتَّةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً.
وَالْكَلَامُ فِيهِ كَمَا سَبَقَ حَرْفًا بِحَرْفٍ.
وَقَوْلُ السَّائِلِ: إنَّ احْتِمَالَ غَيْرِ ذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ غَيْرُ الْعُدُولِ عَنْ الظَّاهِرِ.
هَذَا كُلُّهُ إذَا قُلْنَا: إنَّ النَّاسَ لَا يَشْمَلُ الْجِنَّ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ: إنَّ اسْمَ النَّاسِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْجِنِّ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ لَنَا لَا لِلسَّائِلِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ صَحَّ فِيهِ لَفْظَةُ الْخَلْقِ مَوْضِعَ النَّاسِ وَهِيَ أَعَمُّ وَأَنَّ الْحَدِيثَيْنِ مَخْرَجُهُمَا مُخْتَلِفٌ وَأَحَدُهُمَا خَاصٌّ وَالْأُخَرُ عَامٌّ وَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ إذَا كَانَا اثْنَيْنِ لَا يُقْضَى بِالْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بَلْ يُقْضَى بِالْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَيَكُونُ الْآخَرُ ذَكَرَ بَعْضَ أَفْرَادِ الْعُمُومِ وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعُمُومِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُورِ فِي الْأُصُولِ الَّذِي لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا الشُّذُوذُ.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: لَمْ يَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِنَّ وَلَا تَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ.
أَقُولُ لَيْسَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَعْنَاهُ وَمُسْلِمٌ رَوَاهُ صَدْرَ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ عَقِيبِهِ قِصَّةَ الْجِنِّ وَاسْتِمَاعَهُمْ الْقُرْآنَ فَأَشْعَرَ بِمُرَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّفْيَ الْمُرَادَ بِهِ فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ فَاقْتِطَاعُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَرِوَايَتُهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ حَتَّى تُوهِمَ انْتِفَاءَ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجِنِّ مُطْلَقًا وَقِرَاءَتِهِ عَلَيْهِمْ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، وَرُبَّمَا يُوهِمُ بَعْضُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ أَصْلًا وَقَدْ ثَبَتَ اجْتِمَاعُهُ بِهِمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي لَا مَطْعَنَ فِيهِ وَثَبَتَ بُلُوغُ الْقُرْآنِ لَهُمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُوَافِقِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ.
فَأَجَابَنِي السَّائِلُ مِنْ أَيْنَ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْكَلَامِ وَقِصَّةُ الْجِنِّ أَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُحَدِّثُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِخْبَارِ إلَّا رَوَاهَا وَلَا مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إلَّا ذَكَرَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا كَانَتْ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَا لَا أَشُكُّ فِي أَنَّهَا كَانَتْ مَرَّتَيْنِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا أَشُكُّ فِي أَنَّهَا هَلْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ مَرَّتَيْنِ خَاصَّةً.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ: فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّعَى الرِّسَالَةَ إلَيْهِمْ زَالَ الْإِشْكَالُ وَوَجَبَ الْإِيمَانُ.
أَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ «بُعِثْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً» وَالْعَامُّ حُجَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ الثُّبُوتِ أَنْ يَكُونَ بِالصَّرِيحِ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِالْعُمُومِ، وَهُوَ حَاصِلٌ هُنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا هُوَ صَرِيحٌ مِنْ طَرِيقِ وَثِيمَةَ بْنِ مُوسَى وَلَكِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ثُبُوتَهُ وَذَكَرْنَا قَوْلَهُ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْعُمْدَةُ حَدِيثُ مُسْلِمٍ.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ: إذْ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ.
أَقُولُ: كُلُّ خَيْرٍ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَاصًّا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ وَارِدًا عَلَى لِسَانِهِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْبَطًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَ السَّائِلُ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَى ذَلِكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ بِإِحْدَى هَذِهِ الطُّرُقِ فَنَقُولُ: هُوَ حَاصِلٌ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْآيَاتِ وَالِاسْتِنْبَاطِ وَالْحَدِيثِ الْعَامِّ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَتِهِ نَصًّا صَرِيحًا عَلَى عَدَمِ دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ إلَيْهِمْ فَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا صَرِيحًا وَيَثْبُتُ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِحَدِيثٍ عَامٍّ أَوْ بِاسْتِنْبَاطٍ مِنْ قَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ جِهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَصْلٌ:
قَالَ السَّائِلُ وَإِلَّا فَهَلْ يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِي ذَلِكَ أَمْ يَكْفِي الْإِيمَانُ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ مَا الْمَطْلُوبُ فِيهِ الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ لَا التَّفْصِيلِيُّ.
أَقُولُ: قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِي وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِذَلِكَ، وَنَقُولُ هُنَا: إنَّ النَّاسَ عَلَى أَقْسَامٍ مِنْهُمْ عَامِّيٌّ لَمْ تَخْطُرْ بِبَالِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَوْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ وَمَا اعْتَقَدَ فِيهَا شَيْئًا لِجَهْلِهِ فَهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَلَّفْ بِذَلِكَ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُطْلِقَ بِشَهَادَتِهِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَا يُخَصِّصَهَا فَمَتَى خَصَّصَهَا فَقَالَ: إلَى الْإِنْسِ خَاصَّةً فَسَنَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ.
وَمِنْهُمْ عَامِّيُّ اعْتَقَدَ فِيهَا خِلَافَ الْحَقِّ لِشُبْهَةٍ أَوْ تَقْلِيدِ جَاهِلٍ.